العمى الاستراتيجي في الشركات… ودور مجالس الإدارة في معالجته
خلال سنوات عملي في إدارة المرافق (FM)، تبيّن لي أن أبرز التحديات تكمن في غياب مشاركة القيادات في القرارات الخاصة بهذا القطاع، سواء في المؤسسات الحكومية أو الخاصة. هذا النقص يحرم إدارة المرافق من دورها الاستراتيجي المؤثر في نجاح المنظمات.
وعلى الرغم أن إدارة المرافق تؤثر بشكل مباشر على 25% إلى 35% من تكاليف المؤسسة وتلعب دورًا محوريًا في تحقيق الأهداف المؤسسية ـ من صيانة المباني وتحسين بيئة العمل إلى الامتثال وخفض التكاليف التشغيلية ـ ما زالت مهمّشة عن دوائر القيادة. هذا التهميش لا يُعدّ خطأً عابرًا، بل يمثل نقطة عَمى استراتيجية تستوجب التدخل العاجل.
والسؤال الذي يتكرر بيني وبين زملائي في قطاع إدارة المرافق: لماذا يتم تهميش هذا القطاع في دوائر القيادة المؤسسية؟ وما الذي يترتّب على هذا الإهمال من آثار على كفاءة الأداء واستدامة المؤسسات؟
فنحن بحاجة إلى تغيير جذري في النموذج الحالي، يضمن دمج إدارة المرافق في صميم الأهداف الإستراتيجية للمؤسسات.
ومن واقع خبرتي في المناقصات العالمية لإدارة المرافق، أرى أن مشاركة القيادات ما زالت محدودة، وغالبًا لا تتجاوز قوائم الامتثال الشكلية. ففي معظم المؤسسات، تُستبعَد إدارة المرافق من دوائر الإدارة العليا (C-suite) وتُعامل كوظيفة ثانوية، لا كعامل تمكين إستراتيجي. هذا التصوّر الخاطئ يعمّق الفجوة بين أهداف إدارة المرافق والأهداف الرئيسة للأعمال، مثل إدارة دورة حياة الأصول، ومتطلبات الحوكمة البيئية والاجتماعية (ESG)، وتجربة بيئة العمل، ورفاهية الموظفين، والتحوّل الرقمي.
واستنادًا إلى خبرتي في المناقصات العالمية لإدارة المرافق، يظل الانخراط الفعّال للقيادات أمرًا نادرًا، وغالبًا ما يقتصر على مراجعات شكلية للامتثال بدلًا من مشاركة حقيقية تركّز على النتائج.
وإقصاء قادة إدارة المرافق عن هرمية صنع القرار يحدّ من قدرتها على تحقيق أثرها الإيجابي. لذا يصبح من الضروري أن يشارك مجلس الإدارة والإدارة العليا (C-suite) بفاعلية في صياغة إستراتيجيات إدارة المرافق وتنفيذها وتقييم نتائجها.
وفي معظم المؤسسات، تُستبعَد إدارة المرافق من دوائر الإدارة العليا (C-suite) وتُعامل كوظيفة تشغيلية فقط، لا كجزء من الإستراتيجية. هذا التصوّر يقلل من قيمتها ويجعل أهدافها منفصلة عن الأهداف الرئيسة للأعمال، مثل خفض تكاليف دورة حياة المباني، ودعم مبادرات الحوكمة البيئية والاجتماعية (ESG)، وتحسين بيئة العمل ورفاهية الموظفين، ودفع التحوّل الرقمي.
وضعف تأثير إدارة المرافق وقياداتها في صنع القرار ووضع الميزانيات يحدّ من مكانتها، ويؤثر سلبًا على مجالات حيوية مثل إدارة المخاطر، وخفض التكاليف، وسمعة المؤسسة. النتيجة غالبًا نهج مجزّأ وتجاوبي، يحقق وفورات قصيرة الأجل في سلاسل الإمداد، لكنه يتجاهل الاستدامة طويلة المدى ويقود إلى تجاوز التكاليف لاحقًا.
يمثل هذا خللًا إستراتيجيًا كبيرًا ينبغي معالجته لضمان الأثر الحقيقي لإدارة المرافق. فحتى الآن، لم أجد مؤشرات أداء (KPIs) خاصة بهذا القطاع مدرجة في لوحات القيادة التنفيذية. ورغم الخطابات المتكررة عن الحوكمة البيئية والاجتماعية (ESG)، تبقى إدارة المرافق مهمَّشة، مع أنها المحرّك الأول لمبادرات الاستدامة، من ترشيد الطاقة إلى تعزيز الوعي المجتمعي.
وعلى مدى مسيرتي، كثيرًا ما صادفت استراتيجيات ورؤى لامعة، حتى من كبرى شركات الاستشارات، لكن نادرًا ما وجدت ذكرًا لإدارة المرافق فيها. تجاهل مؤشرات الأداء الخاصة بهذا القطاع يمثل تقصيرًا خطيرًا؛ إذ إن عدم قياس العائد على الاستثمار في مجالات مثل كفاءة الطاقة، ودورة حياة الأصول، وإنتاجية الموظفين، يضعف نتائج المؤسسة. وعندما لا يرتبط أداء إدارة المرافق بمخرجات حيوية كخفض التوقفات، وتحسين تجربة العملاء، واستبقاء الكفاءات، فإن ذلك ينعكس مباشرة على الأداء المؤسسي ككل.
وأحد أبرز تبعات هذا الانفصال هو أن القيادة تحرم نفسها من الرؤى التنبؤية التي توفّرها بيانات إدارة المرافق، مثل اتجاهات الصيانة وتحليلات الإشغال، والتي تعد أساسية في ضبط التكاليف. غياب هذه المواءمة قد يقود إلى قرارات خاطئة، نتيجة نهج معزول تحكمه مصالح فردية تركّز على خفض النفقات أكثر من تحقيق القيمة المؤسسية الكاملة.
وتظهر فجوة واضحة في ربط إدارة المرافق بأهداف الاستدامة، رغم كونها خط الدفاع الأول في مبادرات مثل إدارة الطاقة وتقليل النفايات والحصول على الشهادات الخضراء. ومع ذلك، ما زالت أغلب المؤسسات تتجاهل إشراك هذا القطاع عند صياغة خطط الحوكمة البيئية والاجتماعية (ESG)، لتفقد بذلك عنصرًا محوريًا في نجاحها.
وفي مجال التحوّل الرقمي، تبرز أهمية إدارة المرافق في استمرارية الأعمال عبر تقنيات مثل إنترنت الأشياء (IoT)، ونظم CAFM، وحلول المباني الذكية. لكن ضعف تكامل هذه المنصات مع أنظمة تخطيط الموارد (ERP) يخلق بيانات مجزأة، فيما تفشل الأنظمة المالية في ربط النفقات التشغيلية (OpEx) والرأسمالية (CapEx) بصورة شاملة، ما يؤدي إلى أخطاء جوهرية في الميزانيات. ورغم أهميتها، ما زالت الاستثمارات في تقنيات إدارة المرافق تتأخر لغياب أولويتها لدى القيادات.
ويشهد جانب الموارد البشرية تحديات مشابهة؛ إذ تُصاغ استراتيجيات أماكن العمل غالبًا بمعزل عن رؤى إدارة المرافق، رغم أهميتها في قضايا مثل النماذج الهجينة، وصحة الموظفين، واستخدام المساحات. هذا التجاهل يفضي إلى ثغرات في الرقمنة ويعقّد تحولات بيئة العمل.
وتعاني إدارة المرافق من فجوة واضحة في تطوير المواهب، إذ تفشل القيادات العليا في دمج تحديات القوى العاملة الخاصة بهذا القطاع ضمن إستراتيجية الموارد البشرية. والنتيجة: نقص مزمن في المهارات، شيخوخة القوى العاملة، وفرص محدودة للنمو المهني. كما يتم تجاهل موظفي المرافق في برامج التدريب والقيادة، ما يضعف الروح المعنوية ويزيد مشكلات الاستبقاء وثقافة الخدمة، ليؤدي ذلك في النهاية إلى تراجع الجودة وارتفاع المخاطر التشغيلية.
التركيز المفرط على خفض التكاليف قصيرة الأجل في إدارة المرافق، مع ضعف دعم القيادة، يقوّض القيمة طويلة المدى. فالاقتصاد في الإنفاق قد يوفّر على المدى القصير، لكنه يضعف إطالة عمر الأصول، ويحدّ من قدرة المؤسسات على الصمود، ويؤثر سلبًا على تجربة المستخدم.
ولا تزال سياسات المشتريات في إدارة المرافق تركّز على أدنى سعر، متجاهلة نماذج الأداء وتكاليف دورة الحياة. هذا النهج القائم على معايير قديمة يضعف مصداقية القرارات، ويحوّل التعاقدات إلى معاملات تجارية بحتة، ما يقلّص هوامش المزوّدين، ويخنق الابتكار، ويؤثر على جودة الخدمة.
غياب الحوكمة والتوحيد القياسي والرقابة على المخاطر: في ظل غياب إشراف الإدارة التنفيذية العليا (C-suite) على أطر حوكمة إدارة المرافق، قد تواجه المؤسسات ضعفًا أو عدم اتساق في الامتثال لمتطلبات الصحة والسلامة وأكواد البناء. وقد يؤدّي ذلك إلى تجاوزات في التكاليف، بما في ذلك مشكلات جسيمة تتعلق باستمرارية الأعمال بشكل عام. وغالبًا ما يغيب التوافق الإستراتيجي بشأن الجاهزية للأزمات، وإدارة الكوارث، وخطط استمرارية الأعمال، مما يترك المؤسسات عرضة لمخاطر جسيمة على الصعيدين السمعة والقانون، إضافةً إلى المخاطر التشغيلية.
ومن الضروري معالجة الجذر الأساسي لهذا الانفصال القيادي. فما زالت عقليّة تقليدية مترسّخة ترى في إدارة المرافق مجرد صيانة أو دعم، بدلاً من اعتبارها أصلاً إستراتيجيًا للمؤسسة. تضع الهياكل التنظيمية المجزّأة إدارة المرافق ضمن نطاق التقارير التابعة لإدارات الشؤون الإدارية أو التشغيلية، مما يجرّدها من الصوت الإستراتيجي والرؤية التي تستحقها. ويشمل ذلك أيضًا ضعف الإلمام بإدارة المرافق داخل مجالس الإدارة. فكثير من التنفيذيين يفتقرون إلى الوعي بنطاق إدارة المرافق، والعائد على استثماراتها (ROI)، وأهميتها الإستراتيجية. كما يسود أيضًا انعزال البيانات، إذ لا تكون أنظمة إدارة المرافق مدمجة ضمن منصّات المؤسسة أو أدوات التحليلات.
الطريق إلى الأمام: تعزيز الإدماج الإستراتيجي لإدارة المرافق
وللتغلّب على هذه التحديات، يتعيّن على المؤسسات أن:
- رفع مكانة قيادة إدارة المرافق لتمكينها من المشاركة في لجان التخطيط الإستراتيجي والتحوّل المؤسسي.
- مواءمة أهداف إدارة المرافق مع مخرجات الأعمال، بما في ذلك الإنتاجية، والاستدامة، وتجربة العملاء، والربحية.
- إدراج مؤشرات الأداء الرئيسية لإدارة المرافق (FM KPIs) ضمن بطاقات الأداء المؤسسية.
- تعزيز دمج بيانات إدارة المرافق ضمن لوحات المتابعة التنفيذية.
- الاستثمار في تطوير القوى العاملة وبرامج التدريب القيادي لفرق إدارة المرافق.
- اعتماد عقود إدارة المرافق القائمة على المخرجات، والتي تحفّز على الابتكار والكفاءة.
في الختام، إن تهميش إدارة المرافق عن القيادة الإستراتيجية يُعدّ نقطة عَمى خطيرة تكلف المؤسسات كفاءتها ومرونتها ونموها. الاعتراف بهذا القطاع كعامل تمكين إستراتيجي، لا كمجرد مركز تكلفة، هو التزام تجاري لا غنى عنه.